"وداعآ للتلال"

وداعا للتلال،
بقلم أنيس الصفار

نراهم ويروننا، نرصد حركاتهم ويرصدون حركاتنا، ليلا نهارا، يوما بعد يوم وشهرا بعد شهر. تعبنا وهم تعبوا، ولكننا لن نكف، ولن يكفوا في أغلب الأحيان نستطيع أن نراهم بأعيننا المجردة، وبالمناظير المقربة صرنا نعرف بعضهم بالوجوه. ففي هذا الموقع لا يفصل بين خطوطنا وخطوطهم سوى واد صغير... بضعة مئات من الأمتار، نحن نحتل قمم التلال من جانبنا وهم يحتلون القمم المقابلة... ننتظر وينتظرون.
حين استلمت وحدتنا هذا الموقع قبل عام أو يزيد كانت وحدة منهكة مثخنة بالجراح. معارك دامية في الأهوار، ومهالك يشيب لها الوليد عند المملحة، مشينا فوق الألغام وزحفنا فوق الجثث في ظلام ليل بهيم لا نور فيه إلا وهج المدافع ونيران الحرائق والانفجارات. أكلنا خبزنا مغمسا بالوحل والطين، ورشفنا شاينا وفي مناخرنا لذع الدخان والبارود.
ثم جئنا إلى هنا، قيل لنا انها جبهة هادئة عند مقتربات الجبال، مقامنا فيها سيكون نوعا من الاستجمام. ومن يدري، قد تنتهي الحرب قبل أن نضطر لخوض معارك جديدة، فالحرب في عامها السابع وقد تعب الجميع. يا له من حلم سعيد بعيد.
وصدقوا في كل ما قالوه، ورحلت الوحدة التي سلمتنا الموقع وهي تتنهد متحسرة. بل لوحظ أن بعض جنودها كانوا يختلسون الفرص بعيدا عن الأنظار فيتبادلون إشارات التحية والوداع مع جنود العدو كما لو كانوا من أعز الأصدقاء.
غضبنا كثيرا من سلوكهم هذا. قلنا هؤلاء صبية لم يذوقوا الهول، وعزمنا على إبلاغ الجانب الآخر رسالة. وفي أول يوم خلا فيه الميدان لنا صببنا على مواقعهم نارا أفرغنا فيها كل غضب الشهور الماضية. ضربنا بقسوة لا مبرر لها إلا أن نقول لهم: إننا لسنا مثل من كانوا قبلنا. وجاءنا الرد صاعقا! صبوا علينا أضعاف نيراننا وسددوها بدقة لا تصدق... وعينا رسالتهم كما وعوا رسالتنا، ومن يومها لم يحدث ما يكدر صفو التلال.
بمرور الأيام تعافت النفوس، وأخذت الجروح بالاندمال. ومن أقدر مني أنا - طبيب الوحدة - على تحسس هذا الهول؟ لا متمارضين، لا جروح رصاص مسببة ذاتيا، لا تهالك على الفوز بإجازة أو إرسال للعلاج في الخطوط الخلفية. حتى خالد لم أعد أراه. ذلك الشاب الذي اعتاد أن يبكي كالطفل أمامي متوسلا بي أن أطرد الأشباح التي حلت برأسه منذ أن كان سائق دبابة، فكان كلما نظف جنازير دبابته بعد معركة قاسية وجد عظمة فخذ أو قحف جمجمة محشورة فيها فيضعها أمامه ويظل يصرخ بها مكررا السؤال: "من أنت؟؟"
كيف لي أن أطرد الأشباح، والأرواح تحصد من حولنا بالألوف؟
شيئا فشيئا صار جنودنا يذكرون جنود العدو باسترخاء، بل أن وجوههم كانت تنم أحيانا عن شيء من الود وهم يتكلمون بإعجاب عن طريقة لعبهم ويتمنون لو أن بإمكان فريق وحدتنا منازلة فريقهم الذي يبدو ندا جديرا بالاحترام. وتناهت إلي وشايات بأن فلانا وفلانا يتبادلون التحية خلسة مع جنود العدو... ولكنني لم أغضب... حتى الوشاة لم يكونوا غاضبين ولعلهم في خلستهم كانوا يفعلون ما يزعمون أنهم ينكروه...
بالأمس انتهى حلمنا... سوف نعود إلى الجنوب حيث تدور رحى موقعة كبيرة عند البحيرة. قضينا ليلتنا في وجوم، فإلى الشمال منا، حيث الجبال الشاهقة، تمور السفوح المثلجة بنيران الحقد والعمى... وإلى الجنوب تذوب الأودية في محرقة البحيرة ذوبان الحديد في المصاهر.
في هذا الصباح بلغني أن خالد أطلق رصاصة على رأسه طردت الأشباح والشقاء وكل شيء. وقبل ساعة جاءني جندي مصاب برصاصة نعلم كلنا من أطلقها عليه، فالعدو لم يطلق اليوم رصاصة واحدة. كتبت تقريري وأغفلت الإشارة إلى هذا الجانب، ولكنهم سيكشفون أمره في اللجنة الطبية وسوف يعدم وسأحاسب أشد الحساب.
نظرت إلى التلال المقابلة... كان كل شيء صامتا. نحن والمدافع والتلال. اغرورقت عيناي بالدموع. رأيت عن بعد أحد جنود العدو. وبدون أن أدري ارتفعت يدي بالتحية له... لا شيء بعد الآن يهم... وعلى البعد رأيت الرجل يرفع يده بالتحية لي...

مع تحياتي

 

 

 

 

ابو فهد..

شاكره لك طرحك الجميل
يعطيكـ العاافيهـ
تقبل ودي واحترامي.