
تابع لما قبله (( 17 ))
ألحق مالك و أحمد بذلك كل مسترسل ،والمسترسل ، الذي لا يماكس والجاهل بقية المبيع ، فإنه بمنزلة الجالبين الجاهلين بالسعر ،فتبين أنه يجب على الإنسان أن لا يبيع مثل هؤلاء إلا بالسعر المعروف ، وهو ثمن المثل ،وإن لم يكن هؤلاء محتاجين إلى الابتياع من ذلك البائع ، لكن لكونهم جاهلين بالقيمة أو مسلمين إلى البائع غير مماكسين له ، و البيع يعتر فيه الرضا ، والرضا يتبع العلم ، ومن لم يعلم أنه غبن فقد يرضى وقد لا يرضى ، فإذا علم أنه غبن ورضى فلا بأس بذلك ، وإذا لم يرض بثمن المثل لم يلتفت إلى سخطه .
ولهذا أثبت الشارع الخيار لمن لم يعلم بالعيب أو التدليس ، فإن الأصل في البيع الصحة، و أن يكون الباطن كالظاهر ، فإذا اشترى على ذلك فيم عرف رضاه إلا بذلك ، فإذا تبين أن في السلعة غشاً أو عيباً فهو كما لو وصفه بصفة وتبينت بخلافها ،فقد يرضى وقد لا يرضى ، فإن رضي و إلا فسخ البيع ، وفي الصحيحين عن حكيم بن حزام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( البيعان بالخيار مالم يتفرقا ، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما ، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما )).
وفي السنن أن رجلاً كانت له شجرة في أرض غيره ، وكان صاحب الأرض يتضرر بدخول صاحب الشجرة ، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يقبل منه بدله أو يتبرع له بها فلم يفعل ، فإذن لصاحب الأرض في قلعها ، وقال لصاحب الشجرة
( إنما أنت مضار )) . فهنا أوجب عليه إذا لم يتبرع بها أن يبيعها ، فدل على وجوب البيع عند حاجة المشتري ، وأين حاجة هذا من حاجة عموم الناس إلى الطعام ؟.
ونظير هؤلاء الذين يتجرون في الطعام بالطحن ، والخبز ، ونظير هؤلاء صاحب الخان والقيسارية والحمام إذا احتاج الناس إلى الانتفاع بذلك ، وهو إنما ضمنها ليتجر فيها ، فلو امتنع من إدخال الناس إلا بما شاء وهم يحتاجون لم يمكن من ذلك ، و ألزم ببذل ذلك بأجرة المثل ،كم يلزم الذي يشتري الحنطة ويطحنها ليتجر فيها ، والذي يشتري الدقيق ويخبزه ليتجر فيه مع حاجة الناس إلى ما عنده ، بل إلزامه ببيع ذلك بثمن المثل أولى و أحرى ، بل إذا امتنع من صنعة الخبز والطحن حتى يتضرر الناس بذلك ألزم بصنعتها كما تقدم ، وإذا كانت حاجة الناس تندفع إذا عملوا ما يكفي الناس بحيث يشتري إذ ذاك بالثمن المعروف لم يحتج إلى تسعير، و أما إذا كانت حاجة الناس لا تندفع إلا بالتسعير العادل سعر عليهم تسعير عدل ، لا وكس ، ولاشطط.
الفصل الثالث
[ الغش في الديانات - الاحتساب في الجوانب العقدية والفكرية ]
فأما الغش والتدليس في (( الديانات )) فمثل البدع المخالفة للكتاب والسنة و إجماع سلف الأمة من الأقوال والأفعال ، مثل:
إظهار المكاء والتصدية في مساجد المسلمين.
ومثل سب جمهور الصحابة وجمهور المسلمين ، أو سب أئمة المسلمين ، ومشايخهم ، وولاة أمورهم، المشهورين عند عموم الأمة بالخير .
ومثل التكذيب بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي تلقاه أهل العلم بالقبول.
ومثل رواية الأحاديث الموضوعة المفتراة على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومثل الغلو في الدين بأن ينزل البشر منزلة الإله .
ومثل تجويز الخروج عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومثل الإلحاد في أسماء الله و آياته ، وتحريف الكلم عن مواضعه ، والتكذيب بقدرالله ، ومعارضة أمره ونهيه بقضائه وقدره.
ومثل إظهار الخزعبلات السحرية والشعبذية الطبيعية و غيرها التي يضاهى بها ماللأنبياء والأولياء من المعجزات والكرامات ، ليصد بها عن سبيل الله ، أو يظن بها الخير فيمن ليس من أهله ، وهذا باب واسع يطول وصفه .
فمن ظهر منه شيء من هذه المنكرات وجب منعه من ذلك ، وعقوبته عليها ، إذ لم يتب حتى قدر عليه ، بحسب ما جاءت به الشريعة من قتل ، أو جلد أو غير ذلك .
و أما المحتسب فعليه أن يعزر من أظهر ذلك قولاً أو فعلاً ، ويمنع من الاجتماع في مظان التهم ، فالعقوبة لاتكون إلا على ذنب ثابت ، وأما المنع والاحتراز فيكون مع التهمة ، كما منع عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يجتمع الصبيان بمن كان يتهم بالفاحشة ، وهذا مثل الاحتراز عن قبول شهادة المتهم بالكذب و ائتمان المتهم بالخيانة ، ومعاملة المتهم بالمطل.