
تابع لما قبله ((14 ))
السوق . قال: إذا سعر عليهم قدر ما يرى من شرائهم فلا بأس به ، ولكن أخاف أن يقوموا من السوق . واحتج أصحاب هذا القول بأن هذا مصلحة للناس بالمنع من إغلاء السعر عليهم ، ولا فساد عليهم ، قالوا : ولا يجبر الناس على البيع ، إنما يمنعون من البيع بغير السعر الذي يحده ولي الأمر على حسب مايرى من المصلحة فيه للبائع والمشتري ، ولا يمنع البائع ربحاً ولا يسوغ له منه ما يضر بالناس . وأما الجمهور فاحتجوا بما تقدم من حديث النبي صلى الله عليه وسلم وقد رواه أيضاً أبو داود وغيره من حديث العلاء بن عبدالرحمن ،عن أبيه ، عن أبي هريرة أنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول الله ! سعر لنا ، فقال : (( بل ادعوا الله )) . ثم جاء رجل فقال : يارسول الله سعر لنا !فقال: بل الله يرفع ويخفض، وإني لأرجو أن ألقى الله وليست لأحد عندي مظلمة)). قالوا : و لأن إجبار الناس على بيع لا يجب أو منعهم مما يباح شرعاً ظلم لهم والظلم حرام .
وأما صفة ذلك عند من جوزه ، فقال ابن حبيب : ينبغي للإمام أن يجمع وجوه أهل سوق ذلك الشيء ، ويحضر غيرهم استظهاراً على صدقهم ، فيسألهم : كيف يشترون ؟ وكيف يبيعون ؟ فينازلهم إلى مافيه لهم وللعامة سداد حتى يرضوا ، ولا يجبرون على التسعير ، ولكن عن رضا . قال: وعلى هذا أجازه من أجازه . قال أبو الوليد : ووجه ذلك أنه يهذا يتوصل إلى معرفة مصالح الباعة والمشترين ، ويجعل للباعة في ذلك من الربح ما يقوم بهم ، ولا يكون فيه اجحاف بالناس ، وإذا سعر عليهم من غير رضا بما لاربح لهم فيه أدى ذلك إلى فساد الأسعار وإخفاء الأقوات وإتلاف أموال الناس. قلت : فهذا الذي تنازع فيه العلماء.
وأما إذا امتنع الناس من بيع ما يجب عليهم بيعه فهنا يؤمرون بالواجب ويعاقبون على تركه ، وكذلك من وجب عليه أن يبيع بثمن المثل فامتنع أن يبيع إلا بأكثر منه : فهنا يؤمر بما يجب عليه ويعاقب على تركه بلا ريب. ومن منع التسعير مطلقاً محتجاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن الله هو المسعر القابض الباسط ، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال )). فقد غلط فإن هذه قضية معينة ليست لفظاً عاماً ، وليس فيها أن أحداً امتنع من بيع يجب عليه أو عمل يجب عليه ، أو طلب في ذلك أكثر من عوض المثل . ومعلوم أن الشيء إذا رغب الناس في المزايدة فيه ، فإذا كان صاحبه قد بذله كما جرت به العادة ولكن الناس تزايدوا فيه فهنا لا يسعر عليهم ، والمدينة كما ذكرنا إنما كان الطعام الذي يباع فيها غالباً من الجلب ، وقد يباع فيها شيء يزرع فيها ، وإنما كان يزرع فيها الشعير ، فلم يكن البائعون ولا المشترون ناساً معينين ، ولم يكن هناك أحد يحتاج الناس إلى عينه أو إلى