
تابع لما قبله (( 10 ))
والواجب إذا لم يمكن دفع جميع الظلم أن يدفع الممكن منه ، فالتسعير في مثل هذا واجب بلا نزاع ، وحقيقته : إلزامهم أن لا يبيعوا أو لا يشتروا إلا بثمن المثل .
وهذا واجب في مواضع كثيرة من الشريعة ، فإنه كما أن الإكراه على البيع لا يجوز إلا بحق :يجوز الإكراه على البيع بحق في مواضع مثل بيع المال لقضاء الدين الواجب والنفقة الواجبة ، والإكراه على أن لا يبيع إلا بثمن المثل لا يجوز إلا بحق ، ويجوز في مواضع ، مثل المضطر إلى طعام الغير ، ومثل الغراس والبناء الذي في ملك الغير ، فإن لرب الأرض أن يأخذه بقيمة المثل لا بأكثر . ونظائره كثيرة. وكذلك السراية في العتق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( من أعتق شركاً له في عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة العدل ، لاوكس ولا شطط ،فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد ، و إلا فقد عتق منه ما عتق )).
وكذلك من وجب عليه شراء شيء للعبادات كآلة الحج ورقبة العتق وماء الطهارة ، فعليه أن يشتريه بقيمة المثل ، ليس له أن يمتنع عن الشراء إلا بما يختار . وكذلك فيما يجب عليه من طعام أو كسوة لمن عليه نفقته إذا وجد الطعام أو اللباس الذي يصلح له في العرف بثمن المثل : لم يكن له أن ينتقل إلى ما هو دونه ، حتى يبذل له ذلك بثمن يختاره، ونظائره كثيرة .
ولهذا منع غير واحد من العلماء كأبي حنيفة وأصحابه القسام الذين يقسمون العقار وغيره بالأجر أن يشتركوا والناس محتاجون إليهم أغلوا عليهم الأجر ، فمنع البائعين الذين تواطؤا على أن لا يبيعوا إلا بثمن قدروه أولى ، وكذلك منع المشترين إذا تواطؤا على أن يشتركوا ، فإنهم إذا اشتركوا فيما يشتريه أحدهم حتى يهضموا سلع الناس أولى أيضاً ، فإذا كانت الطائفة التي تشتري نوعاً من السلع أو تبيعها قد تواطأت على أن يهضموا مايشترونه بدون ثمن المثل المعروف ، ويزيدون ما يبيعونه بأكثر من الثمن المعروف ، وينموا مايشترونه ، كان هذا أعظم عدواناً من تلقي السلع ، ومن بيع الحاضر للبادي ، ومن النجش ويكونون قد اتفقوا على ظلم الناس حتى يضطروا إلى بيع سلعهم وشرائها بأكثر من ثمن المثل ، والناس يحتاجون إلى ذلك وشرائه .
وما احتاج إلى بيعه وشرائه عموم الناس فإنه يجب أن لا يباع إلا بثمن المثل ، إذا كانت الحاجة إلى بيعه وشرائه عامة . ومن ذلك أن يحتاج الناس إلى صناعة ناس ، مثل حاجة الناس إلى الفلاحة والنساجة والبناية ، فإن الناس لا بد لهم من طعام يأكلونه وثياب يلبسونها ومساكن يسكنونها ، فإذا لم يجلب لهم من الثياب ما يكفيهم كما كان يجلب إلى الحجاز على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت الثياب تجلب إليهم من اليمن ومصر والشام و أهلها كفار وكانوا يلبسون مانسجه الكفار ولا يغسلونه ، فإذا لم يجلب إلى ناس البلد ما يكفيهم احتاجوا إلى من ينسج لهم الثياب ، ولا بد لهم من طعام إما مجلوب من غير بلدهم و إما من زرع بلدهم ، وهذا هو الغالب . وكذلك لابد لهم من مساكن يسكنونها ، فيحتاجون إلى البناء ، فلهذا قال غير واحد من الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم : كأبي حامد الغزالي ، وأبي الفرج بن الجوزي وغيرهم : إن هذه الصناعات فرض على الكفاية ، فإنه لاتتم مصلحة الناس إلا بها ، كما أن الجهاد فرض على الكفاية، إلا أن يتعين فيكون فرضاً على الأعيان، مثل أن يقصد العدو بلداً، أو مثل أن يستنفر الإمام أحداً .
وطلب العلم الشرعي فرض على الكفاية إلا فيما يتعين ، مثل طلب كل واحد علم ما أمره الله به وما نهاه عنه ، فإن فرض على الأعيان كما أخرجاه في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين )). وكل من أراد الله به خيراً ، لابد أن يفقهه في الدين ، فمن لم يفقهه في الدين لم يرد الله به خيراً . والدين : ما بعث الله به رسوله ، وهو ما يجب على المرء التصديق به والعمل به ، وعلى كل أحد أن يصدق محمداً صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به ، ويطيعه فيما أمر تصديقاً عاماً وطاعة عامة ، ثم إذا ثبت عنه خبر كان عليه أن يصدق به مفصلاً ، وإذا كان مأموراً من جهة بأمر معين كان عليه أن يطيعه طاعة مفصلة .
وكذلك غسل الموتى ، وتكفينهم والصلاة عليهم ، ودفنهم : فرض على الكفاية . وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على الكفاية .