
تابع لما قبله (( 8 ))
وكذلك المعاملات الربوية سواء كانت ثنائية أو ثلاثية إذا كان المقصود بها جميعها أخذ دراهم بدرهم أكثر منها إلى أجل . فالثنائية ما يكون بين اثنين : مثل أن يجمع إلى القرض بيعاً أو إجارة أو مساقاة أو مزارعة ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ماليس عندك )). قال الترمذي حديث صحيح . ومثل أن يبيعه سلعة إلى أجل ثم يعيدها إليه ، ففي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
( من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا)). والثلاثية : مثل أن يدخلا بينهما محللاً للربا يشتري السلعة منه آكل الربا ثم يبيعها المعطي للربا إلى أجل ثم يعيدها إلى صاحبها بنقص دراهم يستفيدها المحلل .
وهذه المعاملات منها ماهو حرام بإجماع المسلمين مثل التي يجري فيها شرط لذلك ، أو التي يباع فيها المبيع قبل القبض الشرعي أو بغير الشروط الشرعية ، أو يقلب فيها الدين على المعسر ، فإن المعسر يجب إنظاره ولا يجوز الزيادة عليه بمعاملة ولا غيرها بإجماع المسلمين ، ومنها ما قد تنازع فيه بعض العلماء ، لكن الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين تحريم ذلك كله .
ومن المنكرات تلقي السلع قبل أن تجيء إلى السوق ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك لما فيه من تغرير البائع ، فإنه لا يعرف السعر فيشتري منه المشتري بدون القيمة ، ولذلك أثبت النبي صلى الله عليه وسلم له الخيار إذا هبط إلى السوق ، وثبوت الخيار له مع الغبن لا ريب فيه ، وأما ثبوته بلا غبن ففيه نزاع بين العلماء ، وفيه عن أحمد روايتان : إحداهما: يثبت ، وهو قول الشافعي ، والثانية: لا يثبت لعدم الغبن . وثبوت الخيار بالغبن للمسترسل – وهو الذي لا يماكس – هو مذهب مالك وأحمد وغيرهما ، فليس لأهل السوق أن يبيعوا المماكس بسعر ويبيعوا المسترسل الذي لا يماكس أو من هو جاهل بالسعر بأكثر من ذلك السعر هذا مما ينكر على الباعة . وجاء في الحديث : ((غبن المسترسل ربا )) وهو بمنزلة تلقي السلع ، فإن القادم جاهل بالسعر ، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد ، وقال : ((دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض )) . وقيل لابن عباس ما قوله
( لا يبيع حاضر لباد ))؟ قال: لا يكون له سمسار ، وهذا نهي عنه لما فيه من ضرر المشترين ، فإن المقيم إذا توكل للقادم في بيع سلعة يحتاج الناس إليها والقادم لا يعرف السعر ضر ذلك المشتري ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض )).
ومثل ذلك ( الاحتكار ) لما يحتاج الناس إليه ، روى مسلم في صحيحه عن معمر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( لا يحتكر إلا خاطئ )). فإن المحتكر هو الذي يعمد إلى شراء ما يحتاج إليه الناس من الطعام فيحبسه عنهم ويريد إغلاءه عليهم ، وهو ظالم للخلق المشترين ، ولهذا كان لولي الأمر أن يكره الناس على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند ضرورة الناس إليه ، مثل من عنده طعام لا يحتاج إليه والناس في مخمصة ، فإنه يجبر على بيعه للناس بقيمة المثل ، ولهذا قال الفقهاء : من اضطر إلى طعام لغير أخذه منه بغير اختياره بقيمة مثله ، ولو امتنع من بيعه إلا بأكثر من سعره لم يستحق إلا سعره .
ومن هنا يتبين أن السعر منه ما هو ظلم لا يجوز ،ومنه ما هو عدل جائز فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه ، أو منعهم مما أباحه الله لهم: فهو حرام ، و إذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل ، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ زيادة على عوض المثل : فهو جائز ، بل واجب . فأما الأول فمثل ما روى أنس قال : غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يارسول الله ! لو سعرت ؟ فقال : (( إن الله هو القابض الباسط الرازق المسعر ، وأني لأرجو أن ألقى الله ولا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال )). رواه أبو داود والترمذي وصححه ، فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم وقد ارتفع السعر إما لقلة الشيء ، وإما لكثرة الخلق ، فهذا إلى الله . فإلزام الخلق أن يبيعوا بقيمة بعينها إكراه بغير حق .
و أما الثاني فمثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة على القيمة المعروفة ، فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل ، ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل ، فيجب أن يلتزموا بما ألزمهم الله به . و أبلغ من هذا أن يكون الناس قد التزموا أن لا يبيع الطعام أو غيره إلا أناس معروفون، لاتباع تلك السلع إلا لهم ، ثم يبيعونها هم ، فلوا باع غيرهم ذلك منع ، إما ظلماً لوظيفة تؤخذ من البائع ، أو غير ظلم ، لما في ذلك من الفساد ، فهنا يجب التسعير عليهم بحيث لا يبيعون إلا بقيمة المثل، ولا يشترون أموال الناس إلا بقيمة المثل بلا تردد في ذلك عند أحد من العلماء ، لأنه إذا كان قد منع غيرهم أن يبيع ذلك النوع أو يشتريه ، فلو سوغ لهم أن يبيعوا بما اختاروا أو اشتروا بما اختاروا كان ذلك ظلماً للخلق من وجهين : ظلماً للبائعين الذين يريدون بيع تلك الأموال ، وظلماً للمشترين منهم.