لما ظهر الخوارج على الكوفة أخذوا أبا حنيفة رحمه الله فقالوا له : تب يا شيخ من الكفر !
فقال : أنا تائب إلى الله من كل كفر .
فخلوا عنه .
فلما ولى قيل لهم : إنه تاب من الكفر ، وإنما يعني به : ما أنتم عليه !
فاسترجعوه .
فقال رأسهم : يا شيخ ! إنما تبت من الكفر ، وتعني به ما نحن عليه ؟!
فقال أبو حنيفة : أبظن تقول هذا ، أم بعلم ؟
فقال : بل بظن .
فقال أبو حنيفة : إن الله تعالى يقول : { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم }
وهذه خطيئة منك ، وكل خطيئة (عندك) كفر ؛ فتب أنت أولا من الكفر !
فقال : صدقت يا شيخ ، أنا تائب من الكفر !
وجاؤؤه مرة أخرى ليناظروه ؛ لما علموا أنه لا يكفر أحدا من أهل القبلة بذنب
فقالوا : هاتان جنازتان على باب المسجد :
أما إحداهما ؛ فلرجل شرب الخمر حتى كظته ، وحشرج بها ؛ فمات غرقا في الخمر
والأخرى : امرأة زنت حتى إذا أيقنت بالحمل ؛ قتلت نفسها !
فقال لهم أبو حنيفة : من أي الملل كانا ؟ أمن اليهود ؟
قالوا : لا
أفمن النصارى ؟
قالوا : لا
قال : أفمن المجوس ؟
قالوا : لا
قال : من أي الملل كانا ؟
قالوا : من الملة التي تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله !
قال : فأخبروني عن الشهادة ، كم هي من الإيمان ؟ ثلث ، أم ربع ، أم خمس ؟!
قالوا : إن الإيمان لا يكون ثلثا ، ولا ربعا ، ولا خمسا !
قال : فكم هي من الإيمان ؟
قالوا : الإيمان كله .
قال : فما سؤالكم إياي عن قوم زعمتم وأقررتم أنهما كانا مؤمنين ؟!
فقالوا: دعنا عنك ! أمن أهل الجنة هما ، أم من أهل النار ؟
قال : أما إذا أبيتم :
فإني أقول فيهما ما قال نبي الله إبراهيم في قوم كانوا أعظم جرما منهم : { رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم }
وأقول فيهما ما قال نبي الله عيسى في قوم كانوا أعظم جرما منهما : { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم }
وأقول فيهما ما قال نبي الله نوح : { قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون * قال وما علمي بما كانوا يعملون * إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون }
وأقول فيهما ما قال نبي الله نوح عليه السلام وعليهم أجمعين وعلى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - : { ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين }
فألقوا السلاح ، وقالوا : تبرأنا من كل دين كنا عليه ، وندين الله بدينك ؛ فقد آتاك الله فضلا وحكمة وعلما ..