تابع لما قبله ((11 ))
والولايات كلها : الدينية مثل إمرة المؤمنين ، وما دونها : من ملك ، ووزارة، وديوانية ، سواء كانت كتابة خطاب ، أو كتابة حساب لمستخرج أو مصروف في أرزاق المقاتلة أو غيرهم ، ومثل إمارة حرب ، وقضاء وحسبة ، وفروع هذه الولايات إنما شرعت للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مدينته النبوية يتولى جميع ما يتعلق بولاة الأمور ، ويولي في الأماكن البعيدة عنه ، كما ولى على مكة عتاب بن أسيد ، وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص ، و على قرى عرينة خالد بن سعيد بن العاص ، وبعث علياً ومعاذاً و أبا موسى إلى اليمن ، وكذلك كان يؤمر على السرايا ويبعث على الأموال الزكوية السعاة ، فيأخذونها ممن هي عليه ويدفعونها إلى مستحقيها الذين سماهم الله في القرآن ، فيرجع الساعي إلى المدينة وليس معه إلا السوط ، لا يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بشيء إذا وجد لها موضعاً يضعها فيه .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستوفي الحساب على العمال ، يحاسبهم على المستخرج والمصروف ، كما في الصحيحين عن أبي حميد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وسلماستعمل رجلاً من الأزد يقال له : ابن اللتبية على الصدقات ، فلما رجع حسابه فقال: هذا لكم وهذا أهدي إليّ ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( ما بال الرجل نستعمله على العمل مما ولانا الله فيقول : هذا لكم وهذا أهدي إليّ ؟ أفلا قعد في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا ؟ والذي نفسي بيده لا نستعمل رجلاً على العمل مما ولانا الله فيغل منه شيئاً إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته: إن كان بعيراً له رغاء، وإن كانت بقرة لها خوار ، وإن كانت شاة تيعر ، ثم رفع يديه إلى السماء وقال : اللهم هل بلغت ؟ اللهم هل بغلت ؟ )) قالها مرتين أو ثلاثاً .
والمقصود هنا : أن هذه الأعمال التي هي فرض على الكفاية متى لم يقم بها غير الإنسان صارت فرض عين عليه ، لا سيما إن كان غيره عاجزاً عنها ، فإذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم صار هذا العمل واجباً يجبرهم ولي الأمر عليه إذا امتنعوا عنه بعوض المثل ، ولا يمكنهم من مطالبة الناس بزيادة عن عوض المثل ، ولا يمكن الناس من ظلمهم بأن يعطوهم دون حقهم ، كما إذا احتاج الجند المرصدون للجهاد إلى فلاحة أرضهم الزم مَنْ صناعته الفلاحة بأن يصنعها لهم ،فإن الجند يلزمون بأن لا يظلموا الفلاح كما ألزم الفلاح أن يفلح للجند . والمزارعة جائزة في أصح قولي العلماء ، وهي عمل المسلمين على عهد نبيهم وعهد خلفائه الراشدين ، وعليها عمل آل أبي بكر وآل عمر وآل عثمان وآل علي وغيرهم من بيوت المهاجرين ، وهي قول أكابر الصحابة كابن مسعود ، وهي مذهب فقهاء الحديث ، كأحمد بن حنبل ، و إسحاق بن راهويه ، وداود بن علي ، والبخاري ، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة ، وأبي بكر بن المنذر وغيرهم من فقهاء المسلمين ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع حتى مات ، ولم تزل تلك المعاملة حتى أجلاهم عمر عن خير ، وكان قد شارطهم أن يعمروها من أموالهم ، وكان البذر منهم لا من النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا كان الصحيح من قولي العلماء أن البذر إلا من العامل . والذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من المخابرة وكراء الأرض قد جاء مفسراً بأنهم كانوا يشترطون لرب الأرض زرع بقعة معينة ، ومثل هذا الشرط باطل بالنص وإجماع العلماء وهو كما لو شرط في المضاربة لرب المال دراهم معينة ، فإن هذا لا يجوز بالاتفاق لأن المعاملة مبناها على العدل ، وهذه المعاملات من جنس المشاركات . والمشاركة إنما تكون إذا كان لكل من الشريكين جزء شائع كالثلث والنصف ، فإذا جعل لأحدهما شيء مقدر لم يكن ذلك عدلاً بل كان ظلماً .
وقد ظن طائفة من العلماء أن هذه المشاركات من باب الإجارات بعض مجهول ، فقالوا: القياس يقتضي تحريمها ، ثم منهم من حرم المساقاة والزراعة وأباح المضاربة استحباباً للحاجة ، لأن الدراهم لايمكن إجارتها كما يقول أبو حنيفة ، ومنهم من أباح المساقاة إما مطلقاً كقول مالك والقديم للشافعي ، أو على النخل والعنب كالجدبد للشافعي ، لأن الشجر لا يمكن إجارتها بخلاف الأرض ، وأباحوا مايحتاج إليه من المزارعة تبعاً للمساقاة ، فأباحوا المزارعة تبعاً للمساقاة كقول الشافعي إذا كانت الأرض أغلب ، أو قدروا ذلك بالثلث كقول مالك ، وأما جمهور السلف وفقهاء الأمصار فقالوا: هذا من باب المشاركة لا من باب الإجارة التي يقصد فيها العمل ، فإن مقصود كل منها ما يحصل من الثمر والزرع ، وهما متشاركان : هذا ببدنه وهذا بماله كالمضاربة . ولهذا كان الصحيح من قولي العلماء : أن هذه المشاركات إذا فسدت وجب نصيب المثل لا أجرة المثل ، فيجب من الربح أو النماء إما ثلثه وإما نصفه ، كما جرت العادة في مثل ذلك ، ولا يجب أجرة مقدرة ، فإن ذلك قد يستغرق المال وأضعافه ، وإنما يجب في الفاسد من العقود نظير مايجب في الصحيح ، والواجب في الصحيح ليس هو أجرة مسماة ، بل جزء شائع من الربح مسمى فيجب في الفاسدة نظير ذلك .
والمزارعة أصل من المؤاجرة وأقرب إلى العدل والأصول ، فإنهما يشتركان في المغنم والمغرم ، بخلاف المؤاجرة فإن صاحب الأرض تسلم له الأجرة والمستأجر قد يحصل له زرع وقد لا يحصل ، والعلماء مختلفون في جواز هذا وجواز هذا ، والصحيح جوازهما . وسواء كانت الأرض مقطعة أو لم تكن مقطعة ، وما علمت أحداً من علماء المسلمين – لا أهل المذاهب الأربعة ولا غيرهم – قال: إن إجارة الإقطاع لا تجوز ، وما زال المسلمون يؤجرون الأرض المقطعة من زمن الصحابة إلى زمننا هذا ، لكن بعض أهل زماننا ابتدعوا هذا القول ، قالوا: لأن المقطع لا يملك المنفعة ، فيصير كالمستعير إذا أكرى الأرض المعارة ، وهذا القياس خطأ لوجهين :