ليس للعجب من نهاية في الواقع العربي. وهذا التعبير الذي اتخذته عنواناً أحد تلك العجائب ..
فالمكابرة متغلغلة في كثير من شؤون حياتنا، تلغي الواقعَ وتتشبث بالوهم، ولا تطيق معرفة الحقيقة ..
حيث الأحداث والوقائع والأرقام والتجارب والمشاهدات جميعها أضغاث أحلام.
وهذا المنطق الذي يصير الغرابَ عنزاً، يستطيع أن ينافس الحواة في حيلهم، فيصير الدمَ معجون طماطم،
والفقر رفاهية، والبلطجة مقاومة، وهي مكابرة تلازم صاحبها عندما يحب أو يكره.
وقد شهدنا كيف ساهم هذا المنطق المراوغ في تكريس حالة من التخلف المزمن،
وكيف عطل عجلة التنمية، واستنزف الثروات في صراعات لا تنتهي إلا لكي تبدأ..
في هذا الواقع يتوارى الفيلسوف خلف أحزانه ليحل محله المهرج. ولا خلاص،
كما يرى أحد الفلاسفة، إلا لمن يضع علامة استفهام صغيرة خلف ألفاظه الأثيرة،
وتعاليمه المفضلة.
ليس للعجب من نهاية. ولا عجب، إذن، أن تشاهد في برنامج حواري عربي صاخب جعجاعاً
يطبق المثل القائل: «عنز ولو طارت» ويحاول بهرجة (الأضلولة) لتبدو لامعة! هنالك (سذج بلا حدود)
لكن من السذاجة أن يفترض ذلك الجعجاع أن المشاهدين جميعاً على تلك الشاكلة.
في كتابه (الحمقى والمغفلون) يورد ابن الجوزي حكاية مغفل من القرن الثاني الهجري
وقد قدَّم خصماً له إلى أحد الولاة متهماً إياه بالمروق والزندقة،
وفي سياق مرافعته ضد الخصم صار يمزج بين الأنساب والألقاب والملل والطوائف
بطريقة مضحكة تدل على خواء ثقافي لا مثيل له. فقال له الوالي: ما أدري ممّ أتعجّب؟
من علمك بالأنساب أم معرفتك بالألقاب. قال مزهواً بغبائه:
أصلحك الله ما خرجت من الكتّاب حتى تعلمت هذا كله. ويبدو أن ذلك الجعجاع (المعبّأ)
ما خرج من كتَّاب (حزبه) حتى تعلم ذلك الثغاء.
هذا عن منطقه، أما هندامه فليس شهادة على صحة تفكيره.. لأنه يذكّرني، أيضاً،
بحكاية ابن حلبة الموازيني، الذي انتظر، يوماً، خروج أحد نزلاء مصحة عقلية،
وصحبه إلى أحد حمَّامات كنجة (مدينة أذربيجانية) وطلب من الحمَّامي أن ينظفه من كل شوائب البيمارستان،
ثم ألبسه ثوباً من الخز الموشى وغطاء فاخراً للرأس، ودخل به إلى أحد مجالس الوجهاء،
فوقف الحضور احتراماً، وأفسحوا له مكاناً في صدر المجلس. ولم يدركوا أنها إحدى دعابات ابن حلبة الموازيني إلا بعد فوات الأوان.
وبعد: فإنه توجد من خريج البيمارستان المُهَنْدَم نسخ في كل زمان.
وقد يتصدّر في أيامنا هذه المجالس والمنتديات وشاشات التليفزيون،
ويا لعذاب الأذكياء وهم يصغون إلى ذلك الثغاء! وأما النكتة النكتاء فإن أصحاب ذلك المنطق.
كانوا ذات يوم، مستشارين ومنظرين لكيانات سرعان ما انهارت أو تبخّرت أو طارت مثل منطقهم القائل:
«عنز ولو طارت»!
حسن السبع
جريدة اليوم
الثلاثاء21ديسمبر2010